Friday, March 25, 2005

سمير جرجس: الدبارة

سمير جرجس: الدبارة
د. عبدالله علي ابراهيم
الصحافة 22 مارس 2005


قرأت كلمتين مؤثرتين في محاسن فقيد الوطن المرحوم سمير جرجس، لكل من الأستاذين كمال الجزولي والسر مكي أبو زيد. وقد استصفيا في الفقيد وقوفه رمزاً على السماحة السياسية التي سلفت في الخمسينات والستينات. وهي سماحة جعلت منه، وهو من الأقلية القبطية والدينية بمكان، كادراً سياسياً مرموقاً في حركة اشتراكية اجتماعية لغمار الناس. وقد نبه الجزولي الى فضل الأقباط عامة في تعليم غيرهم من المواطنين حِرفاً اقتصرت عليهم من قبل. وأردت في كلمتي هذه في نعي الراحل العزيز أن اتنزل بكلمة الجزولي من عمومها القبطي الى ما لقنه سمير شخصياً لرفاقه في الحزب الشيوعي حين تولي إدراة تحرير جريدة «الميدان» لدورتين من دورات صدورها في العلن وهي الفترة 1954م الي 1958م ومن 1965م الي 1966م. ولم يكن سمير ضمن أسرة تحرير «الميدان» في الفترة الثالثة (1985-1989م) لخروجه عن الحزب الشيوعي في ملابسات انقلاب مايو 1969م. وسيقتصر حديثي على الفترة الأولى بالنظر الى توفر بعض أرشيف جريدة «الميدان» لتلك الدورة بطرفي.
جاء سمير الى «الميدان» بخبرة أهله الأقباط في الدبارة وإدارة الأعمال. وكان مدير تحرير ومديراً مالياً في وقت واحد. بل ربما غلب الدور الأخير على الأول. والسبب في ذلك أنه علم بالطبع انه سيدير جريدة لحزب كادحين لا منعم يجري رزقها عليها أو سوق إعلان تغنيه تكفف الناس. وأصبحت تبعة سمير ان يستولد ما سينفقه على الجريدة من عضوية حزب أكثره غلابى وتنوشهم اشكال من «المقويات» (كما كان يعرف اشتراك الحزب الشيوعي) بلغت في يوم من الأيام خمسة في المائة من مرتب العضو متى صدق. ويروى عن هذا الهم المالي للشيوعي أن زميلاً جديداً حضر اجتماع خليته لأول مرة. وسمع من المسؤول السياسي المطالب المالية عليه من مقوي وتبرع للميدان واشتراك فيها وهكذا. واستهول الزميل هذه التكلفة العالية لعضوية الحزب. ولما جاء وقت سؤاله عن اسمه الحركي. قال: «اسمي الحركي مرهج» وكان مرهج هو واحد من أشبع تجار الخرطوم. والحال على ما هو عليه لم يكن بوسع سمير ان يدير المجلة من وراء حجاب بل على مسمع ومرأى من القراء، يطلعهم علي صحة الجريدة أولاً بأول. ورتب لذلك باباً اسمه «من الميدان» يدير به مهمته الجامعة للتحرير والتمويل. ويظهر اسم الباب على صورة لرجل بجلابية وعمة يقرأ في صحيفة وعلي الخلف منه منزل وشجرة.
كانت صورة سمير لصدور الجريدة أنها عملية ولادة. أي أنها تنبثق من حب خالص وعطاء خصيب. وكان يستبطيء المطبعة، الأم، أن تضع حملها في ما رواه عن صدور عدد خاص للميدان ذات مرة. وننقل كلمته هذه في صندوق مصاحب لهذا المقال. وبلغ من هذا الاستبطاء حداً أنه ضرب في رأسه يوماً الوقت الذي ستأخذه مطابع السودان للفراغ من طباعة عدد واحد من اعداد جريدة البرافدا السوفيتية. فقد قال إن رئيس التحرير، السيد بابكر محمد علي، قد أطلعه مرة علي التوزيع اليومي للبرافدا. وهال سمير الرقم وخلص من تضريباته الى أن مطابع السودان الدائخة ستأخذ ستة اعوام كاملة لطباعة ما توزعه برافدا في اليوم وقال: «كم نحن متأخرون».
وكان «من الميدان» باباً تربوياً للشيوعيين. ولم تكن التربية شاغلاً حزبياً مخصوصاً الإ ما تسرب من باب السياسة تسريباً. ومن دلائل ذلك أن مصير كتاب تربوي مثل «إصلاح الخطأ في العمل الجماهيري» الذي كتبه استاذنا عبد الخالق محجوب ما يزال بعيداً عن تهذيب الشيوعيين برغم صدوره في الستينات الأولى. فلم يكن بوسع سمير او الجريدة ان تخفي مآزقها المالية من القراء المناضلين كما يفعل الكادر السياسي الزاهد تحت الأرض. وهي زهادة بمثابة الاستشهاد المؤجل جعلت لهم هالة قداسة عند الرفاق سلطتهم على الرقاب إلا من استحب الخير والتواضع. غير ان الهالة لا تبقي الإ الى حين يضجر منها الرفيق الزاهد ويهجر الحزب. وكان سمير تربوياً عالي الصوت، كان يضيق بتقاعس موزعي الجريدة من الشيوعيين. وغضب مرة قائلاً في الباب: «ليس هناك جريدة في الكرة الأرضية تعامل بواسطة موزعيها كما تعامل الميدان». وأتبع ذلك بقائمة مدن لم تسدد ديونها للجريدة مثل طابت 12 جنيها وجوبا 4 جنيهات والنهود 14 جنيها. واقترح أن تمنح لمدني وبورتسودان جائزة «الإهمال الذهبية» لمبالغتهما في تراكم الاشتراكات والمتأخرات المزمنة. وأنذر مدني بقطع الجريدة من العدد القادم إن لم تسدد ما عليها. وارسل تحية الى عطبرة وواو وشندي وملكال لاهتمامهم بـ «الميدان». وألزم بورتسودان لاحقاً أن يدفع مشتركو الجريدة مقدماً. وبالفعل نشر مكتب «الميدان» بالثغر اعلانا بالمعني. ونتطرق لجوانب اخرى من بركة سمير على جريدة «الميدان» في كلمة أخيرة قادمة.

صندوق
الخميس الماضي:
بقلم سمير جرجس
من عدد صادر في نحو 1957م

كانت الولادة متعثرة ولكن خرج الجنين قوياً جميلاً
ضحكات عصبية ونوم فوق التروس
1850 رقم لم تصله مدينة إقليمية من قبل في تاريخ الصحافة السودانية
مع بداية الليل مساء الأربعاء الماضي توكلنا علي الواحد القهار نحن الأربعة عبد الحميد ونقد وسليمان علي واخوكم (المدير)، ألي هو أنا، وسرنا نحو المنطقة الصناعية نحمل الكميات التي طبعت من عدد «الميدان» الخاص لنذهب بها الي مطبعة مصر حيث يطبع الغلاف ويدبس ويجلد العدد ويعد للارسال للأقاليم. هناك في مطبعة مصر كانت ولادة العدد جد متعسرة. عديد من الماكينات تعمل وتصرخ ولكن الكميات المطلوبة تخرج ببطء قاتل. واخونا عبد الحميد كان منتشياً بعض الشيء فغافلنا ورقد علي احدى الماكينات فوق التروس واخذ تعسيلة ظبط وكان كالفقير الهندي الذي يأخذ راحته عندما ينام فوق المسامير.
استمر العمل اكثر من عشرين ساعة دون توقف، على الرغم من ذلك لم نستطع أن نلحق ببعض القاطرات والطائرات.. والمرجو من الأصدقاء تقدير الظروف.
وفي مساء الخميس خرجنا من مطبعة مصر نحمل عدد «الميدان» (وشحناه) في عربة وجلست بجنبه أتأمله، فخلقت في ذاكرتي صورة أمي عندما توشك أن تلد لنا أخاً صغيراً.. وكيف كانت تظل تصرخ ولكن ما أن يخرج أخي الصغير الى الدنيا حتى تضع يدها عليه وتبتسم.. هكذا كان حالنا.
كلمة أخيرة من عطبرة المجيدة.. تعلمون كم نسخة وزعت من العدد: «1850» نسخة. وهذا رقم لم تصله جريدة سودانية في أي بلد من بلاد الأقاليم من قبل.
سمير


Comments: Post a Comment

<< Home

This page is powered by Blogger. Isn't yours?